الانقراض السابع:الأرض غير محظوظة بنوعنا المحظوظ.!

د. صادق القاضي

بدأت القصة بحياةٍ بدائية على كوكبٍ عدائي. اجتماعهما معاً. حتى في تلك اللحظة المبكرة. قبل حوالي أربعة مليار عام. كان حدثاً استثنائياً أشبه بمعجزة أنتجت هذه الحالة الفريدة من نوعها في الكون.

من وجهة نظر الحياة. ربما لا أسوأ عليها من ظهور “الإنسان العاقل” الذي كلما ازداد عقلاً.. ازدادت شهوته وقدرته على الفتك والإبادة والتلويث والدمار الشامل.

من حينه. دخل الطرفان: الحياة والأرض. في علاقة تكامل وتكافل وتنافع متبادل.. كلٌ منهما أعطى الآخر، وأخذ منه. غيّره وتغيّر به:

الغلاف الجوي للأرض، اللون الأزرق للسماء، الإهاب الأخضر للطبيعة، وحتى الأوكسجين الذي تتنفسه الأحياء، والنفط الذي يستثمره البشر.. كلها من هبات الحياة للأرض.

في المقابل. منحت الأرضُ الحياةَ كل شيء، بدايةً بالوجود والوطن وصولاً إلى المعنى المستمد من علاقتهما الوجودية المصيرية التي تترسخ وتتطور باضطراد.

“الإنسان” من أحدث منتجات هذه العلاقة. بالنسبة لعمر الحياة على الأرض. ظهر “الإنسان” متأخراً للغاية على خشبة المسرح.

قبل نحو مليوني سنة فحسب. ظهر “هومو هابيليس” أول نوع من الجنس البشري “هومو”، وخلال هذه الومضة القصيرة. ظهرت عشرات الأنواع الأخرى التي سادت.. ثم بادت.. تِباعاً. باستثناء نوعنا الأخير الذي لا تتجاوز أقدم أحافيره الـ 300 ألف عام.

“الإنسان” من أحدث منتجات العلاقة بين الأرض والحياة. بالنسبة لعمر الحياة على الأرض. ظهر “الإنسان” متأخراً للغاية على خشبة المسرح.

هومو هابيليس (Homo habilis) هو من أنواع جنس الإنسان، وهو نوع منقرض عاش في مناطق شرق القارة الإفريقية ما بين (2.33 – 1.4) مليون سنة مضت خلال الفترة ما بين العصر الجيلاسي والعصر البليستوسيني، وقد أُكْتُشِفَت أول أحافيره في شمال تنزانيا عام 1962م.

بعض تلك الأنواع “انقرض” لأسباب طبيعية. كـ”هومو فلوريس”. يسميه بعضهم “هوبيت” باسم شخصية مسخ قصير في الفيلم الشهير “سيد الخواتم”، وعموماً هو نوع متقزم عاش منعزلاً في جزيرة إندونيسية إلى ما قبل حوالي 12000 سنة.

بعضها الآخر. كـ “هومو نياندرتال”. اختفى بطريقة درامية أكثر فظاعة. ربما عبر “إبادات جماعية” تعرضت لها على يد بعضها البعض.. في خضم الصراع المحموم على الموارد.

تمّت إزاحة هذا النوع العملاق نسبياً من الشرق الأوسط ثم من أوروبا بالاحتلال والإحلال والتهجير والعنف.. آخر إنسانٍ نيادرتالي ربما مات قتلاً أو جوعاً قبل حوالي 25000 سنة في جنوب إسبانيا.!

تصميم تخيلي للنياندرتال وهم أقرب أقرباء البشر من الجنس الإنساني أو “جنس الهومو” (ويكيميديا)

 

نوعنا المبجّل “هومو سابينس”. “الإنسان العاقل”. هو المسئول عن تلك الإبادة الجماعية التي تُعد أول حملة “تطهير عرقي” في التاريخ، وهي بلا شك أخطرها فقد أسفرت عن اختفاء نوع بشري بالكامل.

الأرجح أن “هومو دينيسوفان” اختفى من شمال وشرق آسياً، بنفس الطريقة العنيفة، وأيضاً على يد “هومو سابينس” الذي تشارك معه هو الآخر بيئة واحدة، وتم بينهما لفترة نوعٌ من التعايش والتزاوج.

أياً كان الأمر. مقارنةً بهذه الأنواع، وربما بأي نوع آخر عاش يوماً ما على الأرض. “هومو سابينس” هو الأخطر على الإطلاق. بمعيار النزعة للعنف والإبادة الجماعية والتدمير.. بما تضمّن عملياً:

  •  حملات تطهير عرقي كان وظل وما زال هذا النوع يمارسها داخل نوعه.
  •  حملات تطهير نوعي ضد الأنواع البشرية الأخرى. أدّت إلى محوها من الوجود.
  • حملات تطهير جنسي ضد الأجناس الحية الأخرى، أدّت وتؤدي إلى انقراضها.
  • وصولاً إلى التدمير المنهجي المتصاعد للبيئة الحاضنة للحياة على هذا الكوكب.!

كان الخطر على الحياة يأتي من خارجها، كنيزكٍ كبيرٍ شارد يقال إنه ارتطم بالارض. هذه المرة الخطر على عليها يأتي من داخلها، ولسخرية القدر بسبب نوع حي نجا بأعجوبة من انقراض جليدي حدث منذ 11 ألف سنة، وقضى على نسبة عالية من الأحياء في أماكن كثيرة من العالم.!

من وجهة نظر الحياة. ربما لا أسوأ عليها من ظهور هذا “الإنسان العاقل” الذي كلما ازداد عقلاً.. ازدادت شهوته وقدرته على الفتك والإبادة والتلويث والدمار الشامل.

من حسن حظها فقط أنه ظهر متأخراً. كانفجار كبير مقابل لـ “الانفجار الكمبري” الذي مثّل طفرة مبكرة هائلة في ظهور الأنواع الحية، بينما تسبب الإنسان بطفرة هائلة متأخرة في انقراضها.

 

هذه هي دوامة الزمن الجيولوجي. إذا دققتَ النظر، ستجد أن البشرية مُمَثَّلة براكب أمواج.
الصورة: جوزيف جراهام، ويليام نيومان، جون ستايسي/هيئة المسح الجيولوجي الأمريكيةPhotograph: Joseph Graham, William Newman, John Stacy/United States Geological Survey

 

من الجدير تأكيد أن الانقراض. كالموت. ليس مشكلة بحد ذاته، فهو جزء جوهري في طبيعة الحياة. نسبة عالية من الـ 99.9% من الأنواع والأجناس الحية التي عاشت على الأرض. انقرضت بشكل طبيعي.

فقط. عندما يتم انقراض الأنواع بشكل جماعي، وعلى نطاقات واسعة، وبدرجة أعلى من المعدل الطبيعي.. يصبح الأمر جائحة. كالموت الجماعي للأفراد في حالة الوباء.

هذا ما يحدث حالياً ومنذ بداية الثورة الصناعية. بمعدلات قياسية. حسب الدراسات المعنية، فقد بلغ معدل الانقراض السنوي خلال القرن الماضي من “1,000 : 10,000 ضعف معدَّله الطبيعي”.!

ما يزيد الطين بلة. أن هذا المعدل المريع يتضاعف كل بضعة سنوات. حتى أن “معدل انقراض الأنواع اليوم بلغ ضعف ما كانت تذهب إليه تقديرات الخبراء قبل أقل من خمس سنين”.!

العملية تتسارع بشكل مخيف. ككرة الجليد، وإذا استمر اندفاعها على هذه الوتيرة فإن الأرض ستفقد نحو “55%” من الأنواع الحية خلال الـ”150″ سنة القادمة، بل يرى بعضهم أن نحواً من “20%” من الكائنات الحية ستكون قد انقرضت بحلول عام 2022″. !

نادراً ما تعرضت الحياة من قبل لتهديد وجودي مماثل، وإن حدث ذلك في مرات قليلة متباعدة. يختزلها علماء “البليونتولوجيا” في الانقراضات الستة الكبرى في تاريخ الحياة.

إذا ظهرت كائنات ذكية عاقلة في المستقبل، وهذا ممكن مبدئياً، فستكتشف أن نوعنا المنقرض كان ذكياً جداً. لكنه لم يكن عاقلا بما يكفي لإدراك أهمية المحافظة على عالمه!

في كل مرة، كان الخطر على الحياة يأتي من خارجها، وربما من خارج الأرض. كنيزكٍ كبيرٍ شارد يقال إنه ارتطم بالارض، منذ 56 مليون سنة، وتسبب بانقراض “60 : 80%” من أشكال الحياة. أشهرها الديناصورات.

هذه المرة الخطر على الحياة يأتي من داخلها، ولسخرية القدر بسبب نوع حي نجا بأعجوبة من انقراض جليدي حدث منذ 11 ألف سنة، وقضى على نسبة عالية من الأحياء في أماكن كثيرة من العالم.!

في كتابه “صعود الشمبانزي الثالث وسقوطه”. أكد “جارد ديموند”.أن “الإبادة كانت وما زالت جزءاً من تراثنا الإنساني وما قبل الإنساني لملايين السنين”.

ومع ذلك لا يمكن مقارنة العدوانية المتأصلة لدى هذا النوع الذكي بما كانت عليه لدى الأسلاف. لا كمّاً ولا كيفاً، وبالذات حالياً، وهي تجري أفقياً على امتداد الكوكب، ورأسياً من طبقة الأوزون إلى أعماق الأرض.

الحياة غير محظوظة بنوعنا المحظوظ. وهذه مشكلة لا يكمن حلها في ما تطرحه مثلاً “الحركة الطوعية لانقراض الجنس البشري”، فقد يتحقق هذا الانقراض بشكل إجباري. إذا لم يحدث تغيير جذري في وعي الإنسان وممارساته تجاه الطبيعة.

في أحسن الأحوال. قد يتمكن الإنسان من تغيير طباعه العدوانية الطفيلية الانتهازية المتأصلة. ورغم صعوبة هذه المهمة، إلا أنها قد تكون ممكنة على حافة الفناء. على الأقل كما تقول بعض روايات وأفلام الخيال العلمي.

ما لم.. فسيكون الإنسان ببساطة آخر ضحايا هذا الانقراض الذي تسبب به، والذي يستحق – نظراً لخصوصيته- تسمية خاصة، ووضعا مستقلاً باعتباره الانقراض السابع في تاريخ الحياة.

إذا ظهرت كائنات ذكية عاقلة في المستقبل، وهذا ممكن مبدئياً، فستكتشف أن نوعنا المنقرض كان ذكياً جداً. لكنه لم يكن عاقلا بما يكفي لإدراك أهمية المحافظة على عالمه، وفي كل حال ستكون الأرض قد عادت أكثر نضارة وكثافة بالحياة. كعادتها بعد كل انقراضٍ كبير.

 

الحياة غير محظوظة بنوعنا المحظوظ. وهذه مشكلة لا يكمن حلها في ما تطرحه مثلاً “الحركة الطوعية لانقراض الجنس البشري”، فقد يتحقق هذا الانقراض بشكل إجباري. إذا لم يحدث تغيير جذري في وعي الإنسان وممارساته تجاه الطبيعة.

اقرأ أيضاً