انخفض منسوب مياه الأمطار في اليمن خلال العقدين الماضيين بشكل كبير جدًا وبات هذا واقع يلمسه الجميع في مختلف المناطق اليمنية ومنها على سبيل المثال لا الحصر قاع الحقل بمديرية يريم، محافظة إب، وسط البلاد، الأمر الذي أدى الى كثير من التغيرات على مستوى البيئة الزراعية والحياة الاجتماعية بشكل لافت.
سنحاول في هذا المقال التذكير ببعض هذه التغييرات على سبيل الإشارة لا الإجمال أبرزها، اختفاء الأبار العادية، التي كانت تحفر يدويًا، ويتم استغلالها خلال وقت معين، في فصل الشتاء لريّ بعض المحاصيل الزراعية، وحلّت محلها الأبار الارتوازية، التي انتشرت بشكل واسع، وباتت تهدد المياه الجوفية بالجفاف؛ نظرًا لزيادة عمق الوصول الى المياه الجوفية، حيث كان في السابق يتم الوصول إلى المياه في تلك المناطق على بُعد 80 الى 100 متر فقط، ووصلت مؤخرًا إلى أكثر من 700 و 800 متر وأكثر.
كما تم إحياء أراض زراعية لم تكن صالحة للزراعة إطلاقا؛ لأنها كانت ممرًا ومجمّعًا لسيول الأمطار، وكانت بعضها تُسمى شعبيًا “مَضَايا” جمع “مَضيّة”، وهو المكان الواسع المخصص لرعي الأبقار والأغنام، وغير صالح للزراعة، لأنها كانت تظل مغمورة بمياه الأمطار على مدار العام.
إضافة إلى ذلك، قام الكثير من المزارعين بإنهاء مجاري السيول التي كانت تسمى في اللهجة الشعبية “مقالح” جمع مَقْلَح، والتي كانت تمر عبرها سيول الأمطار، من أعالي الجبال إلى أماكنها المعتادة، فتحافظ على المحاصيل الزراعية من انغمارها بالسيول، وبالتالي عدم التأثير عليها كليًا، وللأسف مع انخفاض منسوب الأمطار خلال السنوات الماضية، تم القضاء على هذه الممرات المائية، والبعض الأخر تم تضييقها الى حدود بسيطة جدًا، لا تسمح لمرور كميات السيول الكبيرة، مما يجعل السيول حاليًا تشق طريقها نحو المزارع، وتعرضها للإتلاف.
كذلك، تم بناء منازل، وشق طرق في أماكن ما كانت صالحة لذلك ابدًا، لأنها كانت كذلك ممرًا للسيول، وبسبب انخفاض منسوب الأمطار استُحدثت أيضًا مبانٍ واسعة في تلك الأماكن، وهو ما يهددها بخطر الانهيار، واعتقد أن هذا الأمر ينطبق على كثير من المناطق في مختلف المحافظات اليمنية.
كما أن بعض المناطق كان يطلق عليها اسم “بحرانة”، وهو اسم مشتق من “البحر”، ويعود السبب لذلك، لأن هذه المناطق كانت كالبحر، تظل طوال العام ممتلئة بمياه الأمطار وآثارها التي تسمى “أبْجَار” (جمع بِجْر وهو الماء، الذي يخرج من بطون الأراضي الزراعية؛ نتيجة زيادة كميات الأمطار، وهو مضر بالزراعة بشكل كبير؛ نظرا لملوحته) ولذا كانت غالبية أراضي هذه المناطق لا تزرع أبدًا، وكانت تسمى كما أشرت سابقا “مَضَايا” ولعل الكثير من الزملاء والأساتذة الكرام يعرفون هذا الأمر.
أتذكر أن أحد الأباء حين سألته لماذا لم تقم بشراء أرضية في مدينة “كتاب” بدلا عن السكن في القرية؟ (تبعد المدينة عن القرية بحدود 3 كيلومتر) فقال: لأن “المدينة” لم تكن حينها تصلح للسكن، ولم تكن مغرية لأحد أن يفكر في شراء أرض، فضلا عن السكن فيها؛ لأنها كانت مجرى السيول، من مختلف الأماكن، وكانت مهددة بالغرق. ولذا كانت المناطق الجبلية هي المكان الذي يهوي إليه اليمنيين، ويتسابق الناس للاستقرار، وشراء الأراضي وبناء المساكن فيها.
وبالتالي، اذا استمر هطول الأمطار بهذه الغزارة، فلا شك ستنتهي كثير من المحاصيل الزراعية، وستعود كثير من الأراضي الزراعية كما كانت “مضايا” وستتدمر الكثير من المنازل، بل ستغرق أحياء بأكملها، وخصوصًا تلك التي على مجاري السيول، ما لم يتم اتخاذ الاجراءات اللازمة، خصوصًا مع التغيرات المناخية التي باتت تهدد كثير من دول العالم ومنها اليمن.
بالمقابل، في حال استمرار هطول الأمطار، فأن الكثير من المحاصيل لن تكون صالحة للزراعة في كثير من المناطق، ومنها على سبيل المثال زراعة البطاطس، والذي يعد المحصول الأضعف قدرة على مقاومة الأمطار، والتغيرات المناخية، الأمر الذي قد يجعل هذه المناطق صالحة لزراعة محاصيل أخرى كالأرز مثلا، باعتباره من المحاصيل التي تنمو وسط الأراضي المغمورة بالمياه، كما كانت هذه المناطق سابقًا.
كما أن هذا التغيّر سيعمل على عودة الزراعة التي كانت تشتهر به هذه المناطق في السابق، مثل القمح والشعير والحنطة، والذرة، والفاصوليا، والعدس، وغيرها من المحاصيل التي حدّت منها زراعة البطاطس بشكل كبير جدًا، نظرا لقدرة هذه المحاصيل على مقاومة الأمطار والتغيرات المناخية أكثر من البطاطس، التي تحولت زراعتها إلى عملية استثمارية تنافسية كبيرة ساهمت في القضاء على الكثير من المحاصيل الزراعية الأخرى.
ولذا على الجهات الرسمية التفكير مليًا في معالجة مثل هذه الأمور التي قد تبدو في نظر البعض أمورًا عادية لا تستحق الالتفات اليها، لكن مخاطرها في حال استمر الوضع على ما هو عليه سيكون كبير جدًا، خصوصًا مع اعتماد أكثر من 90 بالمائة من السكان على الزراعة كمصدر دخل وحيد، مع العلم أن هذا الأمر لا يشمل فقط هذه المناطق التي ذكرتها؛ بل يشمل مختلف المحافظات اليمنية التي تشهد هي الأخرى أمطارًا غزيرة، ربما لم تشهدها منذ سنوات.
*باحث في شؤون اللاجئين ونازحي المناخ