مقدمة
لا شك في أن ثماني سنوات من الحرب في اليمن خلّفت إحدى أشد الأزمات الإنسانية في العالم خلال القرن الحادي والعشرين. ساهمت الحرب بتدهور أحد أكثر البلدان فقراً لتمحو مكاسب عقدين من التنمية، حيث كانت تحتل اليمن الترتيب 153 على مستوى مؤشر التنمية من أصل 189 في عام 2015 قبل احتدام الصراع في مارس من ذات العام. تراجعت مؤشرات التنمية مع استمرار وتيرة الصراع وتدهورت إلى 183 في 2020. النزاع المسلح الدائر بين الحكومة اليمنية والتحالف العربي بقيادة السعودية ضد الجماعات المسلحة (الحوثيين) امتد إلى مناطق مختلفة من البلاد وتسبب في أضرار جسيمة على كافة القطاعات في أغلب المناطق اليمنية.
تأتي العاصمة صنعاء وصعدة في مقدمة المدن المتضررة، تليهما تعز وعدن والحديدة. لحق الخراب بما يقارب من 40% من الوحدات السكنية ما بين تدمير جزئي أو كلي. وتشير الإحصائيات إلى أن أكثر من ثلث المنشآت التعليمية تعرضت للتدمير، وكذلك 40% من قطاع المياه والصرف الصحي و39% من قطاع الصحة. كما تصاعدت وتيرة النزاع المسلح، ما أجبر ما يقارب 3.65 ملايين شخص على النزوح داخلياً. وأثر النزوح سلباً على الحياة المعيشية للناس والبيئة جراء الاحتطاب الجائر للأشجار للحصول على مصدر للطاقة كوقود للطبخ والتنافس على الموارد المحدودة كمصادر المياه.
لقد خلّف الصراع أثراً مباشراً على الوضع الاقتصادي، حيث انخفض الناتج المحلي إلى أقل من 5%. وانعكس ذلك سلباً على الوضع المعيشي، وأصبح 20 مليون يمني من جملة 30 مليوناً يعانون من انعدام الأمن الغذائي، وتردي الخدمات وخاصة الصحية منها، إلى جانب الهشاشة الاقتصادية ونقص الغذاء، ما نتج عنه وفيات بلغت 60% من إجمالي عدد ضحايا الحرب الدائرة البالغ عددهم 377,000 حتى نهاية عام 2021. ومن المتوقع أن ترتفع نسبة من سيتوفون لأسباب غير مباشرة نتيجة الصراع وخاصة الأطفال إلى 70% بحلول عام 2030 في حال استمرت الحرب.
أخيراً، تجدر الإشارة إلى أن اليمن تعاني من تدهور بيئي شديد من حيث ندرة المياه وتدهور المدرجات الجبلية، وهي واحدة من أهم أساليب الزراعة للأراضي الجبلية في اليمن منذ آلاف السنين والتي يعتمد عليها أغلب سكان اليمن لإنتاج غذائهم منها. كما اتسعت رقعة المناطق المتصحّرة نتيجة الجفاف وتنامي كميات الغازات الدفيئة المنبعثة إلى الهواء نتيجة النشاط السكاني. وقد تفاقمت المشكلة في السنوات الأخيرة نتيجة للصراع المسلح الذي يجتاح مناطق مختلفة من اليمن. وكأي منطقة نزاع، فهناك آثار غير مباشرة لهذا الصراع على البيئة اليمنية. وتهدف هذه الورقة إلى توضيح أبرز تلك الآثار وتقترح توصيات قد تساعد على تخفيف آثار الصراع على البيئة على المدى الطويل.
في الوقت الحاضر، لا يحصل الكثير من سكان اليمن على المياه النقية من شبكات المياه أو مؤسساتها بما في ذلك المدن الرئيسية
الحرب تفاقم هشاشة قطاعي المياه والصرف الصحي
يعاني اليمن إجمالاً من فقر مائي خانق، ويعتمد على مياه الأمطار التي تغذي المياه الجوفية والسطحية، ولكن في ظل النمو السكاني المتسارع والذي يتجاوز 3.2% سنوياً وتوسع النشاط الاقتصادي للسكان والذي يواجه فيه قطاع المياه ضعف القدرات المؤسسية للدولة رغم اهتمام المانحين بتطوير بعض البنى المؤسسية وشبكات المياه في الفترة التي سبقت الحرب. إلا أن مشاريع شبكات المياه العامة لا تغطي إلا 68% فقط من سكان الحضر في اليمن، كما تشير الدراسات إلى أن متوسط نصيب الفرد في اليمن هو الأدنى في العالم العربي 131 متراً مكعباً سنة 1997، وتناقص تدريجياً إلى أن وصل إلى 74 متراً مكعباً بعد الحرب.
استخدمت أطراف الصراع في اليمن مختلف الأسلحة، وشهدت بعض المدن مثل تعز وصنعاء وعدن والحديدة ضربات جوية بقيادة التحالف العربي أثرت على شبكات المياه والصرف الصحي بشكل مباشر، كما ساهمت عوامل غير مباشرة مثل الإهمال وتوقف التمويل إلى تعثر عمل مؤسسات المياه والصرف الصحي. وقد تعرضت البنية التحتية الخاصة بالمياه لـ105 حوادث خلال سنوات النزاع، منها 96 حادثاً نتيجة الضربات الجوية والبقية كانت قصفاً من القوى المتصارعة على الأرض. تعرض 10% من مرافق المياه للتدمير الكلي، مثل محطة الحديدة للتحلية التي دمرت بالكامل. فيما تأثر ما يقارب من 38% من أصول المياه والصرف الصحي، وتعمل محطات المجاري والمضخات بأدنى كلفة تشغيلية تليها الصهاريج وخزانات المياه. تصدرت محافظتا تعز والحديدة جنوبي اليمن قائمة المدن الأشد تضرراً حيث تأثر 60% من أصول المياه والصرف الصحي.
إقرأ/ي ايضاً
في الوقت الحاضر، لا يحصل الكثير من سكان اليمن على المياه النقية من شبكات المياه أو مؤسساتها بما في ذلك المدن الرئيسية، كما أن انقطاع المياه عن الكثير من الأحياء والمنازل بات شائعاً. فمثلاً في عدن تأثرت كمية ونوعية المياه حيث تقلصت أوقات ضخ المياه من 22 ساعة قبل الحرب إلى 8 ساعات يومياً في 2018. وأما المختبر الخاص بالمياه فقد أصبح شبه متوقف بسبب ضعف التمويل. أما في تعز جنوب اليمن، فقد أفضى الصراع إلى حصار معظم المنافذ الرئيسية للمدينة وكذلك وقوع الحوض المائي الذي يغذي المدينة بالمياه تحت سيطرة ميليشيا الحوثي أحد أطراف الصراع المحلية.
تعتبر مدينة تعز واحدة من أكثر المدن اليمنية معاناة نتيجة شح المياه حتى منذ ما قبل الحرب، حيث كان سكان المدينة يحصلون على المياه في المنازل بواقع مرة كل 22 يوماً. وقد زادت الأمور سوءاً بعد الحرب؛ فقد شهدت المدينة معارك عنيفة وحصاراً أفضى إلى تعطيل مؤسسة المياه بصورة شبه كلية نتيجة الأضرار التي لحقت بمؤسسة المياه وشبكات النقل.
ولسد فجوة نقص المياه تنامى القطاع الخاص غير الرسمي بشكل عشوائي. فعلى سبيل المثال انتشر الحفر العشوائي للآبار ووصل عددها داخل المدينة إلى 70 بئراً جفّ معظمها ولم يتبقَّ منها سوى 22 بئراً. ولجأ كثير من الأسر إلى خيارات متعددة غير آمنة، منها شراء المياه عبر صهاريج المياه المتنقلة (وايتات) والذي يمثل عبئاً مادياً على كثير من الأسر في ظل الهشاشة الاقتصادية وانقطاع الرواتب من ناحية وتلوث هذه المياه من ناحية أخرى. تلبي بعض الأسر حاجاتها عن طريق جمع المياه المجاني من الخزانات المدعومة من فاعلي الخير أو من المنظمات العاملة في قطاع المياه، أو جمع مياه الأمطار وتخزينها في مواسم التساقط.
تأثرت جودة المياه سلباً نتيجة التخزين في عبوات بلاستيكية ملوثة أو مكشوفة، الأمر الذي أدى إلى ظهور متصاعد للأمراض والأوبئة المرتبطة بالمياه وبالذات حمى الضنك والملاريا في السنوات الأخيرة في مناطق متعددة من اليمن.
واستهدف القصف الجوي وحدة معالجة المياه في صنعاء التي شهدت تدهوراً في المعدات وضعفاً في الصيانة نتيجة الإهمال وضعف التمويل وسوء الإدارة، ما أدى إلى تعطّل ضخ المياه وعدم معالجتها رغم ما تظهره الفحوصات من نسبة عالية من النترات والحديد في مياه آبار صنعاء وغيرها من المدن، الأمر الذي يشكل أضراراً صحية كبيرة على مستهلكيها.
والحال ليس أفضل بالنسبة للمياه التابعة للقطاع الخاص والتي يتم بيعها للمواطنين، حيث أظهرت الفحوصات لعينات المياه تجاوز النسبة العالمية من تركيز المواد الصلبة الذائبة.
أما مخزون المياه الجوفية فقد تعرضت لاستنزاف كبير نتيجة الحفر العشوائي في ظل ضعف الرقابة، وتعرضت المياه الجوفية والسطحية إلى التلوث نتيجة الملوثات البلاستيكية ومياه الصرف الصحي في عدد من المناطق وخاصة المرتفعات الجبلية.
أثّر النزاع المسلح وانعدام المشتقات النفطية أيضاً على وحدات معالجة الصرف الصحي، فإن 31.2 مليون متر مكعب من مياه الصرف الصحي غير المعالجة يستخدمها المزارعون في بعض المناطق في تعز جنوب اليمن بغرض ري المحاصيل مثل الخضروات والقات على الرغم من احتوائها على معادن ثقيلة مثل الزنك والزرنيخ والباريوم تجاوزت الحد المسموح به عالمياً، ما يفاقم الأزمة الصحية للسكان ويزيد من الإصابة بالديدان الطفيلية والبكتيريا وغيرها من الأمراض الخطرة.
انعكس تدهور خدمات الصرف الصحي إلى جانب صعوبة الحصول على مياه نظيفة بشكل سلبي على الصحة العامة للسكان. فبعد وقت وجيز من اندلاع الصراع في الربع الأخير من عام 2016 بدأ وباء الكوليرا (إسهال حاد يسببه فيروس Vibrio cholera ينتقل من خلال الأكل والماء الملوث) يتفشى بشكل غير مسبوق. وفي منتصف عام 2017 وصف الوباء بأنه يقتل شخصاً كل ساعة. وأصيب خلال عام 2017 أكثر من 500 ألف شخص. ومع نهاية عام 2019 خلّف الوباء أكثر من مليوني مصاب ووصل عدد الوفيات إلى 3,750 شخصاً. تعتبر الكوليرا أحد الأمراض المرتبطة ارتباطاً وثيقاً باندلاع النزاع في أي منطقة. فعلى سبيل المثال تفشت الكوليرا سابقاً في أربع محافظات يمنية بعد اندلاع حرب أهلية ضد جماعات مسلحة في أبين عام 2011.
تعتبر النفايات الطبية وما تحتويه من مواد كيميائية سامة تهديداً صحياً أشد خطورة في أغلب مناطق اليمن
مناطق النزاع تغرق في كارثة النفايات الصلبة والمخلّفات
أثر الصراع بشكل مباشر على إدارة النفايات الصلبة في أغلب المدن اليمنية. فبرغم التحديات الكثيرة لرفع المخلفات وإدارتها قبل الحرب، إلا أن الوضع تدهور بشكل لافت بعد الحرب.
رغم بدء الحكومة الموافقة على الاستراتيجية الوطنية لإدارة النفايات الصلبة وفق الخطة الزمنية (2009 – 2013) وخطة الاستثمار لإدارة النفايات الصلبة (2010 – 2013) والتي هدفت إلى رفع الأداء العام في القطاع من حيث زيادة النفايات المرفوعة وتحسين جودة جمع النفايات ومعالجتها وإنشاء أنظمة لجمع البيانات والمراقبة وتحديث مقلب رمي النفايات الحالية مع التنسيق مع الأطراف الفاعلة والمؤسسات المعنية، أبرزها السلطة المحلية وصندوق النظافة والتحسين تحت إشراف وزارة الشؤون المحلية، حيث حدد مبلغ الاستثمار لتنفيذ الخطة بـ270 مليون دولار أمريكي، ولكن الاضطرابات السياسية التي بدأت مع اندلاع ثورة الربيع العربي في مطلع عام 2010 وتصاعد التوتر السياسي بين الحكومة الشرعية وقوات الحوثي الذي بلغ ذروته بتفجير نزاع مسلح في 2015 حال دون تنفيذ الخطة. قبل الحرب ساهمت التدخلات الإنمائية بتعزيز دور مؤسسات الدولة، ولكن مع اندلاع الحرب تحول مسار التدخل إلى إغاثي طارئ يركز على المساعدات الإنسانية، الأمر الذي أثر على عمل المؤسسات حتى في المناطق الأقل نزاعاً. فمثلاً أزمة الوقود وانقطاع رواتب العمال أثرت بشكل سلبي على رفع النفايات وتسببت في تأخر رفعها في بعض المناطق إلى جانب نقص المعدات وسيارات جمع النفايات التي لم تكن متوفرة بالشكل الكافي حتى قبل الحرب، حيث كان معدل رفع المخلفات من مختلف المدن في حدود 65% و 5% في المناطق الريفية، ولكن مع اندلاع الصراع تعرضت 45% من المركبات للنهب والخراب إلى جانب الضغط الكبير على بعض المدن بسبب النازحين داخلياً. تجاوز إجمالي الأضرار التي لحقت قطاع المخلفات الصلبة في 16 مدينة يمنية أكثر من 7 ملايين دولار.
إن ما يقارب من 60% من النفايات المنزلية لا يتم رفعها، ونسبة كبيرة من هذه الأكوام تكدس على قارعة الشوارع في المدن ومجاري الوديان في بعض المناطق، كما يحدث في المهرة، حيث تشكل النفايات خطورة مع هطول الأمطار، فالسيول المتدفقة في موسم التساقط تجرف النفايات وتتراكم في المصبات معرقلة سريان المياه، وينتهى الأمر بفيضان الوادي وإحداث أضرار بالمزارع والمنازل المجاورة.
إن مواقع تجميع النفايات الرسمية تعد مشكلة حتى قبل الحرب، فعدد المكبات الرسمية لا يتجاوز 21 مكباً، 6 منها فقط تخضع للرقابة بينما المكبات المتبقية مكشوفة. أغلب النفايات لا يتم طمرها في المكبات، الأمر الذي يشكل تهديداً بيئياً وصحياً كبيراً، وتنبعث الغازات الدفيئة إلى طبقات الغلاف الجوي، ومن جانب آخر يتسلل الرشح الناتج عن النفايات عبر الطبقات الأرضية ليجد طريقه إلى مخزون المياه الجوفية المصدر الرئيسي للمياه في اليمن، إلى جانب تصاعد احتمالية الانهيارات الأرضية خصوصاً مع هطول الأمطار.
كما تشكل النفايات غير المطمورة أزمة صحية، فهي بيئة خصبة لتكاثر نواقل الأمراض مثل حمى الملاريا والضنك، ومرتع للحيوانات الضالّة مثل الكلاب، ما يرفع خطر انتشار أمراض مثل داء الكلب الذي شهد انتشاراً مخيفاً خلال السنوات الأخيرة، حيث بلغ عدد الإصابات 9 آلاف حالة وتوفى 50 شخصاً في سبعة أشهر فقط خلال العام 2019. الأمر يزداد سوءاً في بعض مناطق النزاع مثل مدينة تعز حيث اضطرت السلطة المحلية إلى تغيير موقع مكب النفايات إلى موقع آخر يبعد أمتاراً قليلة عن المدينة نتيجة الحصار المطبق عليها من قبل قوات الحوثي ووقوع مكب النفايات “مفرق شرعب” غرب المدينة في مناطق سيطرة قوات الحوثي. إن المكب الذي استحدث ما هو إلا تلة مرتفعة كانت منتزهاً عائلياً سابقاً قبل أن تتعرض للتدمير بفعل الغارات الجوية، لينتهي بها المطاف إلى مكب نفايات بديل لمدينة تعز المحاصرة.
تفصل أمتار قليلة فقط أكوام النفايات المتكدسة في المكب البديل في منطقة” الكسارة” عن منازل ومزارع المواطنين المعرّضين بشكل مباشر للأدخنة والروائح.
تشكل النفايات المتراكمة في المكبات، وبالأخص الطبية، خطراً صحياً حقيقياً وكابوساً نتيجة اندلاع الحرائق من تلقاء نفسها بسبب ارتفاع درجة الحرارة الداخلية لأطنان النفايات المتراكمة التى تحتوى على مواد كيميائية مصدرها النفايات الطبية المختلفة، وأحياناً يلجأ السكان إلى ممارسات سلبية مثل الحرق المتعمد لأكوام النفايات بغرض تقليل حجمها، والأدخنة المتصاعدة قد تحتوي على بعض المعادن الثقيلة مثل الزئبق، التي تلحق الضرر بالجهاز العصبي وتسبب التهابات الكلى على المدى البعيد خاصة عند الأطفال حديثي الولادة.
ترتبط الإدارة السيئة لمكبات النفايات بمخاطر صحية مثل الربو والحساسية وتهيج الجلد وأمراض الجهاز الهضمي في المجتمعات القريبة. إضافة إلى ذلك يفتقد العاملون في جمع النفايات إلى أدنى درجات الحماية إذا لم نقل انعدامها سواء أثناء الجمع أوالتفريغ في المقلب، كما أنهم يعانون من كثير من الأمراض الناتجة عن عملهم، فلا توجد لهم حماية ولا تأمين طبي.
تعتبر النفايات الطبية وما تحتويه من مواد كيميائية سامة تهديداً صحياً أشد خطورة في أغلب مناطق اليمن، إذ أن 56% فقط من المنشآت الصحية لديها محارق خاصة، 22% منها معطلة ولا تستخدم لعدة أسباب منها الموقع وضعف الصيانة وانعدام المشتقات النفطية. وفي صنعاء كان يتم فصل النفايات الطبية وحرقها في محرقة خاصة ولكنها تعرضت للتدمير والتفجير في 2015، الأمر الذي أدى إلى التخلص منها في مكب الأزرقين واختلاطها مع بقية النفايات دون فرز أو حتى طمر، ما يشكل تهديداً صحياً مثل الإصابة بأمراض كالسرطان وغيره من الاضطرابات المناعية في حال وصول المواد الكيميائية السامة إلى طبقات المياه الجوفية.
أثر الصراع على عملية تدوير النفايات، رغم أنه قطاع غير رسمي ويعتمد على جامعي الخردوات والمواد البلاستيكية من المكبات والشوارع، إلا أن مصنعين من أصل خمسة مستمران في العمل بطاقة منخفضة نتيجة انقطاع الكهرباء وارتفاع سعر المشتقات النفطية، وصعوبة الوصول إلى بعض مناطق النزاع المسلح وصعوبة تصدير المواد خارج اليمن.
لا تقتصر الأضرار التي تسببها الألغام على الخسائر البشرية فقط، فعلى الصعيد البيئي تحدث الألغام أضراراً جسيمة على مستوى القطاع الزراعي والتربة والحياة البرية.
الإنسان والأرض ضحية لزراعة الألغام والمتفجرات
منذ بدء التوتر السياسي من حرب الجبهة الوطنية إلى الحروب بين الشطرين في مطلع الستينيات انتشرت زراعة الألغام في المناطق الوسطى. بعد أن صادقت اليمن على اتفاقية أوتاوا التي تجرم تصنيع أو استيراد أو زرع الألغام والعبوات الناسفة كرست جهود محلية ودولية لانتزاع الألغام وتطهير الأراضي، لتصبح اليمن أول دولة عربية في تدمير المخزون من الألغام المضادة للأفراد.
لم يدم ذلك طويلاً، فمنذ تصاعد الاضطرابات السياسية في 2011 وبدء النزاع المسلح في 2015 زرعت ألغام مختلفة في الأرض والماء في 17 محافظة بشكل عشوائي ومكثف دون حاجة عسكرية في بعض الأحيان.
حتى يناير من العام 2023 بلغ إجمالي الألغام المزروعة المضادة للأفراد 5892، والمضادة للدبابات 134.632،
أما الذخائر غير المتفجرة فقد بلغت 225.738 وبلغ عدد العبوات الناسفة 7632، مع العلم أن العدد يتصاعد مع استمرار النزاع في اليمن لتصبح البلد بحاجة إلى 8 سنوات لاستكمال انتزاع الألغام في حال توفر الإمكانيات وخرائط زراعة الألغام.
طالت الإصابات والأضرار الصحية والتشوهات 3286 مدنياً بينهم 723 طفلاً، إلى جانب مقتل 2562 مدنياً. وتصدرت مدينة تعز جنوب اليمن من حيث عدد القتلى والمتضررين صحياً بنسبة 22%.
لا تقتصر الأضرار التي تسببها الألغام على الخسائر البشرية فقط، فعلى الصعيد البيئي تحدث الألغام أضراراً جسيمة على مستوى القطاع الزراعي والتربة والحياة البرية.
تضرر القطاع الزراعي بتدمير 334 مزرعة كلياً، وما يقارب من 2185 رأس ماشية تعرضت للنفوق.
تتسبب الألغام بأضرار للنظام الإيكولوجي بشكل لا رجعة فيه، حيث تتدهور البنية الداخلية للتربة، ما يؤثر على الإنتاجية بشكل كبير ويجعلها معرضة أكثر للتعرية. فعلى سبيل المثال انخفضت إنتاجية محصول الأرز في فيتنام إلى النصف، وربع الغابات في أفغانستان تعرضت للتدمير بسبب الألغام والمتفجرات، وما يقارب من 35% من الغطاء النباتي تعرض للتدمير بعد عقدين من الحرب في كمبوديا. ويحتاج الأثر البيئي للألغام في اليمن إلى مزيد من الدراسات.
الى جانب ما تشهده المناطق الساحلية والبحرية على البحر الأحمر من زراعة للألغام وخصوصاً حول الباخرة صافر، يؤثر بدوره على التنوع الحيوي المميز للبحر الأحمر. وقد يؤدي إلى أضرار جسيمة على الكائنات البحرية، وكذا غابات المانجروف والشعاب المرجانية، إلى جانب تدمير المناطق الساحلية الحساسة بيئياً، حيث تستخدم بعض المواقع الحساسة كمواقع ثكنات عسكرية وتتم إحاطتها بالألغام.
إن الألغام المزروعة معرضة للتآكل، حيث تدخل في تركيبها مواد سامة مثل (Trinitrotoluene 2,4,6- TNT) وهيكساهيدر وhexahydro-1,3,5، تراي نيتر وtrinitro -1,3,5، تريازين triazine وغيرها من المواد الخطيرة التي يمكنها التسرب إلى التربة أوالمياه المحيطة. تتحلل المركّبات طويلة الأمد في التربة وتذوب في المياه، والكميات القليلة من هذه المواد خطير للغاية إذا ما وجدت طريقها إلى جسم الإنسان.
التلوث النفطي
التلوث النفطي الناتج عن العمليات الاستكشافية والحفر والاستخراج أو التسرّب من الأنابيب والخزانات، يُعدّ من أخطر الملوثات التي تصيب البيئة وتؤثر على صحة الإنسان. مع بدء إنتاج النفط في مطلع الثمانينيات شهدت عدة مناطق في جنوب اليمن ومأرب أنواعاً مختلفة من التلوث مثل تلوث التربة نتيجة طمر النفايات أو تلوث الهواء نتيجة الحرق المتعمّد للغاز. تدهور الوضع أكثر بعد الحرب في 2015، وتحتوي التربة الواقعة في المنطقة ما بين مأرب وشبوة جنوب اليمن على مركبات خطيرة مثل الهيدروكربونات البترولية المتطايرة والمعادن السامة مثل الكروم والرصاص المسببة للسرطان.
وتشهد منطقة حريب في مأرب تلوثاً على كافة الأصعدة، وقد بلغت نسبة تلوث التربة 74.5% يتبعها تلوث الهواء بنسبة 11.8 ( AL-Kharaz,2020)، ما انعكس بشكل سلبي على صحة سكان المنطقة أمراضاً مختلفة منتشرة بشكل كبير مثل السرطان 64% وأمراض الصدر والجهاز التنفسي 17.6% والكلى 9.8%. من بين 51 شخصاً في المنطقة من 30 إلى 50 ميلاً من مصافي نفط شركة صافر، هناك 64.7% مصابون بسرطان الدماغ، 15.8% مصابون بسرطان الثدي، أما نسبة الإصابة بسرطان الأمعاء فقد بلغت 10.5% وسرطان الدم (اللوكيميا) 10.5%.
ينتج عن استخراج النفط وحفر الآبار التي تتم في حضرموت مخلفات سامة، لأن معظم الحقول النفطية تقع في منطقة الهضبة حيث تقع المستجمعات المائية التي تغذي الوديان في حضرموت. ويتم التخلص من النفايات دون مراعاة للمعايير البيئية عبر حقنها في التكوينات الأرضية غير المغلقة القريبة من طبقات مياه الشرب العذبة في مدينة المكلا في ظل الفساد الإداري وهشاشة الجهات الرقابية منذ ما قبل الحرب.
تحتوي المخلفات النفطية على معادن ثقيلة سامة مثل الزنك والنحاس والباريوم والكادميوم وتلوث المياه والتربة، ما يتسبب بمشاكل صحية للسكان. فعلى سبيل المثال شهدت حضرموت تزايداً ملحوظاً في عدد حالات السرطان في 15 عاماً. فبينما كان عدد المصابين 323 في 2004 تضاعف إلى 1133 في 2014، وكذلك بقية الأمراض مثل مشاكل الجهاز الهضمي والتنفسي والكلى والكبد.
إقرأ/ي ايضاً
التوصيات للحد من تدهور البيئة في اليمن
تعتبر اليمن واحدة من أفقر دول العالم ليس فقط على المستوى المعيشي، ولكن أيضاً في بعض الموارد مثل المياه والذي يعد عصب الحياة ويتعرض لاستنزاف دائم. وقد تسببت الحرب المستعرة في الوقت الحاضر بتفاقم الحياة المعيشية للسكان وانتشار الفقر وانعدام الأمن الغذائي وتدمير البنيات الأساسية والمؤسسات، كما ساعدت على تدهور شديد لعناصر البيئة المستهلكة أصلاً بسبب النمو السكاني المتزايد وضغط النشاط الاقتصادي للسكان على الموارد المتاحة وبالذات المياه رغم ندرتها.
ولكي نحدّ من هذا الوضع لا بد من اتخاذ إجراءات حاسمة نلخصها في ما يأتي:
السياسات في الجوانب العامة:
ضرورة وقف الحرب وتحقيق الأمن والسلام.
إجراء تقييم شامل لحالة البيئة ومخلفات الحرب على البيئة.
وضع استراتيجية وطنية شاملة للنهوض بالوضع الاقتصادي لليمن بعد الحرب.
دعم سياسة البناء البيئي المستدام والعمل على التوزيع العادل للموارد الطبيعية.
الاستفادة من الرؤى والاستراتيجيات التي تم إعدادها قبل الحرب وتطويرها، وبالذات في مجال المياه والأمن الغذائي والزراعة وتدوير المخلفات الصلبة.
إعادة ما تم تدميره بسبب الحرب المقدر بـ 20 إلى 25 مليار دولار لإعادة الإعمار وتطبيع الوضع الاقتصادي والاجتماعي.
تمكين المؤسسات البيئية الحكومية لتبني استراتيجيات طويلة ودعمها مادياً وفنياً لبناء سلام بيئي طويل الأمد.
إدماج إدارة القضايا البيئية في عملية المصالحة وبناء السلام.
استخدام المعونات الإنمائية لتطوير أدوات جمع البيانات وبناء القدرات البشرية في مجال البيئة.
في مجال المياه والصرف الصحي والطاقة:
دعم مصادر الطاقة البديلة للنشاط اليومي للسكان بما فيها توفر الغاز المنزلي للطبخ للحد من الاحتطاب الجائر للأشجار والغطاء النباتي.
تشجيع المنتجين الزراعيين للقات لزراعة محاصيل أخرى يستفيد منها الناس لتحسين الأمن الغذائي والحد من استنزاف المياه على القات والحد من استخدام الأسمدة السامة ووقف استيرادها.
دعم الوساطة البيئية لتعزيز الحوار بين الأطراف الفاعلة في المجتمعات المحلية ذات الموارد المائية المتضائلة.
الاستفادة من مياه المجاري للري بعد معالجتها بالطرق العلمية.
توسيع وصيانة مؤسسات المياه والصرف الصحي لتخدم معظم السكان من ناحية، وحفاظاً على البيئة من التلوث من ناحية أخرى.
التعامل مع الألغام:
الضغط على الأطراف المختلفة لتسليم خرائط الألغام وإزالتها والتخلص منها.
زيادة الدعم لبرامج إزالة الألغام.
زيادة الدعم لرفع سقف الحماية للمدنيين بتحديد مناطق الألغام ووضع خرائط للمناطق الخطرة وعليها العلامات التحذيرية.
تجريم زراعة الألغام والمواد المتفجرة.
النفايات:
إعادة بناء وتشغيل مقالب النفايات وتوسيعها ودراسة إمكانية استبدال البعض منها كونها أصبحت في المناطق السكنية أو في المناطق المهدِّدة لمصادر المياه.
ضرورة فصل النفايات الخطرة وبالذات الطبية منها عن المخلفات الأخرى والتخلص منها بطرق علمية.
إعادة بناء معامل تدوير النفايات وتشجيع المهتمين بهذا النشاط من خلال منحهم القروض الميسرة بل والبيضاء. والتفكير في عملية الاستفادة من معالجة النفايات في إنتاج الطاقة
أهمية إنشاء وحدات للتخلص من النفايات الطبية والخطرة في المدن الرئيسية على الأقل.
ضرورة صيانة وترميم هذه المنشآت بصورة دورية.
التلوث النفطي:
تطبيق القوانين والتشريعات للحد من التلوث النفطي وحث أو إجبار شركات الاستخراج على الالتزام بضوابط وقواعد التخلص الآمن من هذه المخلفات.
الحد من الانبعاثات الغازية وفرض رسوم على منتجيها والعمل على الاستفادة منها بإنتاج الطاقة بدلاً من حرق الغاز في مواقع إنتاج النفط.
العمل على الاستفادة من المياه المصاحبة للنفط والملوثة في مناطق حضرموت وإعادة تدويرها واستغلالها وفق التقنيات والطرق العلمية في الزراعة وفي مشاريع تسمين المواشي.
فرض الغرامات على المخالفين في مجال تلوث البيئة ومحاسبتهم.
ضرورة تعويض المتضررين من التلوث البيئي بسبب استخراج النفط والمعادن الأخرى والتلويث المتعمد.
الاستنتاج
الحفاظ على البيئة والتوازن البيئي هو السبيل الوحيد لحياة آمنة ومستقرة للناس. وقد تعرضت البيئة في اليمن للعديد من التهديدات والمخاطر، منها بفعل الحرب والصراعات المجتمعية على الموارد، ومنها بفعل النشاط الاقتصادي للسكان واستنزافها وعدم الاكتراث بحمايتها. وبالرغم من الخطوات التي تم إنجازها قبل الحرب من وضع الاستراتيجيات والخطط للتعامل مع عناصر البيئة ومكوناتها والحفاظ عليها، إلا أن التهديدات والمخاطر عليها ما زالت قائمة، بل وتتفاقم باستمرار بسبب الحرب وسوء الإدارة وضعف التمويل. نحن بحاجة إلى وقف فوري للحرب وإدماج بناء السلام البيئي ضمن خطط تحقيق السلام لوقف نزيف الدم والموارد.
نقلاً عن مبادرة الإصلاح العربي